في مديح دار للسينما ببغداد: شاشة الأحلام حين تصبح مرآة لتحولات مدينة
في العام 1960 كانت سنتي الأولى في مدرسة، سأحتاج سنوات كي أعرف معنى اسمها: "التهذيب". ثم خمس سنوات لاحقاً في "مدرسة المثنى الإبتدائية" ببنائها الهندسي الجميل، وصفوف الطابق الأرضي منها، المطلة على حديقة كنت أراها جنة حقيقية، لاسيما أنني مبكراً كنت أربط بين البيت الجميل واحتوائه على حديقة، بساحة الرياضة وملعب كرة السلة الذي سيشهد أكثر مباريات سخونة بين مدارس قضاء المسيب الغافي على الفرات الندي المتدفق دائماً.
حين نقلت مع عدد من التلاميذ إلى "مدرسة المثنى" كنت على درجة من السعادة. فذلك يعني أنني سأخترق " شارع لويس باكوس"، وهو أكبر شوارع المسيب وأحدثها، ويخترق عدداً من البساتين، كما أن الطريق إلى المدرسة الجديدة كان يعني خروجاً يومياً من أجواء " محلة أم الصخول" الخانقة، حيث البيوت العتيقة والأزقة الضيقة، ومروراً ببناية السينما حين كنت أمر بدهشة تتجدد، كلما تم تجديد إعلانات الأفلام. لكنها دهشة كانت ممزوجة بمخاوف تنطلق من تحذيرات أهلي من السينما وأخلاق روادها، لكنني وحين كنت في الصف الخامس امتلكت الجرأة في خرق المحظور، ودخلت القاعة العجيبة التي كانت تعرض فيلم" سبارتكوس"، وكانت دهشتي بلغت بي حد أنني لم أشعر بيد والدي وهي ترفعني من مقعدي بغضب، حين أوصل قاطع التذاكر خبراً لعائلتي، فهرع أبي إلى السينما ليخرجني منها. ولم تنفع ضربات عقاله القوي في أن تنتشلني من حالة السحر التي كنت غرقت فيها ونمت ليلتها وأنا أعيش نوعين من المشاعر: لذة اكتشاف ضوء السينما وحكايات أبطالها الساحرة، والألم الذي كانت ضربات عقال أبي تركته على ظهري وعنقي، فيما كانت والدتي تحتضنني ودموعها تنسكب على عنقي الملتهب بصفعات أبي.
في العام 1966 سكنت عائلتي في بغداد، وفيها كانت دور العرض السينمائية قد خلقت تقاليد اجتماعية وثقافية، بل كانت منذ أربعينيات القرن الماضي واحداً من المصادرالغنية للعراقي في معرفة الآخر، ونادراً ما تجد مواطناً متعلماً ممن بلغ في أواخر القرن العشرين، العقد الرابع من عمره، لم تكن السينما شكلاً من اشكال التسلية الراقية عنده. ودور العرض في بغداد تتعدد لا بحسب الأمكنة فحسب، بل بحسب الأذواق وبحسب الشكل السينمائي. فلا يمكن أن تذكر " سينما النهضة" في منطقة الباب الشرقي، الا وتستعيد ذاكرة جمهور السينما في العراق مئات الافلام الأجنبية.
وكيف لي أن انسى درسه التربوي حين أخذني العام 1968 إلى الفيلم الذي أحدث ضجة في العالم "إلى أستاذي مع التحية". فمع سحر الممثل سدني بواتييه، الأستاذ الذي قرر التصدي لتحسين سلوك طلبة مشاغبين بالتوازي مع إغناء قيم المعرفة والإيثار والصداقة وحب الآخر، ومع غناء لولو التي صارت واحدة من المغنيات البريطانيات الشهيرات، أمكنني أن اخرج من صالة السينما مكتظاً بمشاعر أصيلة عن قدرة السلوك التربوي على تغيير البشر وأفكارهم نحو إتجاه إيجابي يركز على قيم الخير والسلام والتعاون.
وفيما كنت قد تحصلت على قدرة شخصية في مواصلة المعرفة والثقافة بعدما رسّخ فيّ أخي أسساً قوية وثابتة، ظلت "سينما غرناطة" محطة لخطاي منفردة تارة، ومصحوبة باصدقاء وصديقات تارة أخرى، وفيها شاهدت أفلاماً فرنسية بارزة، لا سيما مع موجة أفلام السينما الفرنسية التي غزت بغداد في سبعينيات القرن الماضي، كما في فيلمي "الموت حباً" و"الإغتيال" والأخير كان معالجة سينمائية مؤثرة عن إغتيال السياسي المغربي المهدي بن بركة، في باريس العام 1965.
وإذا كانت "سينما غرناطة" تخصصت بالافلام الاجنبية وتقاليد خاصة، من بينها، عرض فيلم خاص لمرة واحدة في الساعة الواحدة بعد الظهر، لاعلاقة له بالفيلم المعروض طوال اليوم، فان من نافسها على جودة عروض السينما العالمية كانت "سينما سميراميس" في عروض ما كان يعرف حينها تحت اسم "السينما التقدمية" بحسب تعبيرات عقد السبعينيات وتحديداً في أفلام" زد"، "ساكو وفانزيتي" و"حالة حصار"، ومع افكارها "الثورية" كانت تتحول تلك العروض إلى منتديات ثقافية واجتماعية متحركة، فبامكانك مشاركة أي من الجمهور في نقاش حول الأبعاد الفكرية والفنية للعروض، حيث الكثيرون كانوا جاءوا وهم يعرفون إلى أين هم ذاهبون، في تطلع هادر إلى المعرفة والحرص على الإتصال مع كل ما كانت تلك العروض تثيره من ايحاءات ودلالات.
في العام 1970 كنت قد تعرفت لأول مرة على الصالة الانيقة لسينما سميراميس، وكانت تعرض فيلماً وثائقياً عن مباريات كأس العالم لكرة القدم، التي أقيمت في العام ذاته بالمكسيك، وظفرت بها البرازيل، وظلت اثيرة لديّ حتى العام 1990، حين غزا العراق جاره الجنوبي ليبدأ منها مرحلة انحداره الثقافي والمدني، حين جاءت العقوبات الدولية الأقسى في التاريخ المعاصر، لتنقض على كل ما هو حيوي ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، لتكون الأفلام السينمائية من قائمة المحظورات، وليتسرب الغبار والظلام شيئاً فشيئاً على صالة جديرة بأن تكون منذورة للأحلام والجمال المحلق.
أقل ما يمكن وصف جمهور تلك العروض، هو القول بأنه جمهور مثقف، جمهور متذوق. وعلى الرغم من تغير المزاج الثقافي والسياسي العراقي في ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن " سميراميس" حاولت البقاء ما أمكنها حارسة لذوق رفيع في الفن السابع حين وفرت للمشاهدين فرصاً نادرة لمتابعة أفلام بارزة حينها.
خذ مثلاً " نادي القطن" أو "كوتون كلوب" لفرانسيس فورد كوبولا، بأداء لافت لمن سيصبح اليوم أحد نجوم السينما الاميركية الأبرز: ريتشارد غير. حضرت الفيلم وأنا عائد من جولة قتال شرس أخرى، خلال الحرب مع ايران، وتحديداً أوائل العام 1985 واستغرقت عميقاً في جمال مشاهد البارع كوبولا المحلقة بفضل من غنى موسيقى الجاز وعمقها، لا سيما أن الفيلم، كان صورة عن حياة مدينة نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، عبر صراعات الناس واضطراب مساراتهم العاطفية والاقتصادية والسلوكية وقد عكسها مكان هو النادي الكائب في حي هارلم، وفي زمن سيصبح تحت رحمة "الكساد العظيم" مما عنى الكثير من الدم والعنف وقد غطى الآلات الموسيقيين وإن كانوا يعزفون لمؤلفين من نوع ديوك الينيغتون.
و"سميراميس" تبدو وكأنها على علاقة بالمخرج اليوناني الأصل، كوستا غافراس، فقد عرضت في العام 1984 فيلما مثيراً للجدل، عراقياً على الأقل. فهو يتعاطى مع قصة محامية إسرائيلية تتولى الدفاع عن معتقل فلسطيني حتى تثبت براءته من تهمة القيام بـ"عملية ارهابية"، وفيه أمكن لعراقيين كثر أن يتلمسوا صورة ما للحياة الإنسانية.
في فيلم" هانا. ك" لكوستا غافراس، أمكن أيضا تلمس الضوء المقدس ما بين أسواق القدس القديمة ومسجد الاقصى وكنائسها، حد أن رعشة قدسية تملكتني وأنا أتابع خطوات الفلسطيني المتهم (أدى دوره الممثل محمد بكري) في تنقله ما بين باحة مسجد قبة الصخرة، وأسواق القدس التي ارتبطت شعوراً عميقاً بأغنية الرحابنة الخالدة "شوارع القدس القديمة". وجاء ذلك الضوء القدسي محمولاً على أجنحة من الرقة، وفرتها موسيقى المؤلف اللبناني الأصل جبريال يارد الذي سيعرفه محبو السينما الرفيعة في بغداد عبر فيلم " وداعاً بونابرت" للمخرج يوسف شاهين.
سينما سميراميس، الكائنة في شارع فرعي بين شارعين هما الأشهر في بغداد: السعدون وأبو نؤاس، كانت شهدت واحدة من حفلات موسيقى البوب النادرة، ففي ليلة رأس السنة 1979- 1980 أحيى فريق موسيقى الديسكو الشهير جداً حينها "ايربشن" حفلة صاخبة تقدمتها بالطبع أغنية "وان واي تيكيت".
ويكاد يكون فيلم "شاعر العنف" المخرج برايان دي بالما " آنتشبيلز" أو"المحصنون"، أحد أخر العروض الرصينة التي عرفتها سمير اميس، قبيل غزو الكويت، ويبدو أن فرط الرصاص الذي شهد الفيلم الذي يصور صراع الشرطة في شيكاغو مع عصابات المافيا، كان متطابقاً مع رصاص حي وحقيقي هذه المرة، انهال ليس على مدينة دار السينما تلك، بل على عموم البلاد حتى انتزع منها، أو كاد، جوانبها الثقافية الحية، ومنها "سميراميس" التي ظلت مؤشراً على مسار جميل لمدينة سيأخذها حكامها والغزاة بإصرار و"بسالة" إلى حياة يحاصرها الغبار والظلام، مثلما كانت دار السينما في العام 2004، حين وجدتها مقبرة لأحلام ومصائر انتقلت من الشاشة إلى الحياة ذاتها.